اختطاف بن بلة ورفاقه.. أول قرصنة جوية في التاريخ

Memoria-n16-024

في الـ22 أكتوبر 1956، اعترضت المقاتلات الحربية الفرنسية، في عرض السواحل الجزائرية، طائرة تابعة لشركة مغربية. كانت الطائرة تقل ركابا استثنائيين: أحمد بن بلة، محمد بوضياف، الحسين آيت أحمد، محمد خيضر، قادة جبهة التحرير الوطني، مرفوقين بالصحافي الجزائري مصطفى الأشرف، المكلف بالإعلام في الجبهة. إنها أول قرصنة جوية في التاريخ.

 عبد الناصر يحذر

سنة 1956، كانت مضت على الثورة الجزائرية سنتان. وكانت مصر، بزعامة جمال عبد الناصر، أهم داعميها. لذا، توجه أحمد بن بلة رئيس الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني، إلى القاهرة للقاء الرئيس، جمال عبد الناصر، وطلب تزويد الثورة بالسلاح. رغم أن مصر كانت على أبواب العدوان الثلاثي، وافق عبد الناصر على تزويد الجبهة بالسلاح.

 بعد الاجتماع حدث أمر ملفت للانتباه. سأل الزعيم المصري ضيفه بن بلة عن وجهته المقبلة. أجاب هذا الأخير بعفوية: مدريد. كرر عبد الناصر سؤاله ثلاث مرات: مدريد وليس الرباط؟. وكان جواب بن بلة: يا أخي إلى مدريد. توجه بن بلة فعلا إلى مدريد للقاء قادة الجبهة في الخارج، محمد بوضياف، الحسين آيت أحمد، ومحمد خيضر.عند وصوله، وجد أن رفاقه غادروا العاصمة الإسبانية إلى الرباط رفقة الملك محمد الخامس، الذي كان في زيارة لإسبانيا. هنا، يقول بن بلة: “تذكرت كلام عبد الناصر لي وتأكيده على أني سأذهب إلى الرباط، وليس إلى مدريد”.

كان القادة الجزائريون في طريقهم إلى تونس للاجتماع بمحمد الخامس وبورقيبة

كان القادة الجزائريون في طريقهم إلى تونس للاجتماع بمحمد الخامس وبورقيبة

كانت المخابرات المصرية إحدى أقوى الأجهزة الاستخباراتية في المنطقة. ولا يستبعد أن تكون علمت برغبة رفاق بن بلة التوجه إلى الرباط، خاصة أن محمد الخامس أرسل مبعوثه إلى مصر، وأعلن نيته عقد اجتماع مع قادة الكفاح الجزائري بالخارج. وهو ما لم يرق الأمر كثيرا لجمال عبد الناصر، خوفا من تدبير “مؤامرة” لهم في المغرب. يقول بن بلة: “كانت كل نبرات صوته وتكرار تساؤله يحذرني من الذهاب إلى الرباط”.

لحق بن بلة برفاقه إلى المغرب. وكان الهدف من مجيئهم هو إطلاع سلطان المغرب ، ثم  الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، على نتائج مفاوضاتهم مع فرنسا التي بدؤوها منذ ما يقارب سنة. يقول بن بلة: “حينما توصلنا إلى ما يشبه الاتفاق النهائي مع الفرنسيين، قلنا لا بد من إطلاع جيراننا المغاربة والتونسيين على ما توصلنا إليه من اتفاق، فهم جيراننا، ولا يمكن أن نبرم شيئا دون أن نطلعهم على ما اتفقنا عليه”.

 قرصنة جوية

بعد اجتماعهم مع الملك محمد الخامس، تقرر أن يصحب القادة الجزائريون السلطان في طائرته الخاصة إلى تونس، للقاء الرئيس بورقيبة. لكن حادثا بسيطا طرأ في آخر لحظة. فتقرر أن يستقل القادة الجزائريون، من باب اللياقة، طائرة منفردة عن طائرة السلطان، بدعوى أن محمد الخامس سيصحب معه حريمه في الرحلة. توجهت طائرة السلطان إلى تونس ولحقتها بعد ساعتين طائرة القادة الجزائرييين.

قضى القادة الجزائريون خمس سنوات في السجون الفرنسية قبل الإفراج عنهم

قضى قادة جبهة التحرير الجزائرية خمس سنوات في السجون الفرنسية قبل الإفراج عنهم

في طريقها إلى العاصمة الجزائرية، اعترضت الطائرات الحربية الفرنسية الطائرة المغربية، وأرغمتها على النزول في مطار الجزائر العاصمة. نزلت الطائرة، ولم يعلم ركابها بأمر الاختطاف، إلا حين رأوا الفرنسيين يطوقونهم. يقول بن بلة: “حينها، جاءتني كل الهواجس، لكن تحذير عبد الناصر كان هو الأعلى بداخلي… أحاط الجيش الفرنسي بالطائرة، وطلبوا منا عبر الميكروفونات أن ننزل. عند ذلك أدرك الجميع أننا وقغنا في قبضة الفرنسيين، فالطيار لم يبلغنا بأي شيء، والطائرة كانت للشركة المغربية”. اقتيد القادة الجزائريون إلى أحد المراكز العسكرية، ووضعوا في زنازين، قبل أن يتم ترحيلهم إلى فرنسا.

لكن، ما السبب في اختطاف قادة الجبهة؟ هل كان الأمر نتيجة فشل المفاوضات مع الحكومة الفرنسية؟. بالعكس، يقول المؤرخ، المعطي منجيب في مقال له بمجلة “زمان” التاريخية المتخصصة: “المشكل هو أنها كانت تسير بوثيرة أسرع. وكان الطرفان على وشك الوصول إلى اتفاق تاريخي” ينص على تنظيم استفتاء لتقرير المصير. ويبدو أن المؤسسة العسكرية لم تكن تعجبها هذه التسوية المنتظرة، حيث كانت متمسكة بالجزائر، ولم يكن في وسعها فقد مستعمرة أخرى، بعد أن خرجت فرنسا صاغرة من الهند الصينية. كان الهدف من خطف القادة الجزائريين، هو قطع الطريق أمام الحكومة الفرنسية، وإفشال المفاوضات مع جبهة التحرير الوطني.

خيوط المؤامرة

استدعت الرباط عبد الرحيم بوعبيد سفيرها في باريس، احتجاجا على عملية الاختطاف

استدعت الرباط سفيرها في باريس احتجاجا

كيف تمكنت فرنسا من العلم بأمر طائرة قادة الجبهة؟. كثير من الأنباء التي تدوولت خلال تلك الفترة تشير بأصابع الاتهام إلى المغرب، وبالضبط إلى دوائر في القصر الملكي، باعتبارها سربت معلومات الى السلطات الفرنسية. فتحي الديب، رئيس جهاز الاستخبارات المصرية في عهد جمال عبد الناصر، يشير إلى ما يصفه بـ”وضوح حقيقة التآمر الفرنسي بالاشتراك مع عناصر مغربية ذات ثقل سياسي”، بل إنه لا يتوانى في التلميح إلى “الدور الذي لعبته دوائر الأمير الحسن ولي العهد في ظروف وملابسات الاختطاف”. وتساءل الديب عن سبب التراجع في قرار مصاحبة القادة الجزائريين للعاهل المغربي في طائرته، وتأجيل سفرهم لمدة ساعتين أو ثلاث، حتى تسهل مهمة اختطافهم في الجو.

نفس السيناريو أشار إليه الصحفي المصري، محمد حسنين هيكل، قبل سنوات على قناة الجزيرة الفضائية، معتبرا أن ولي العهد “لم يكن بعيدا، سواء بقصد أو بالتسريب، أو بأن الفرنسيين العاملين بلاطه عرفوا بأمر سفر القادة الجزائريين”. أما بن بلة، فرفض، في شهادته على نفس القناة الحديث مطلقا عن القضية. واكتفى بالتعليق: “أنا لا أريد أن أتكلم في هذا الأمر من أجل الصالح العام. لن أتكلم في هذا اليوم ولا غدا ولا بعد غد”.

تسببت عملية الاختطاف في أزمة حادة بين الرباط وباريس، خاصة عندما فشل رئيس الحكومة مبارك البكاي، مبعوثا من طرف محمد الخامس، في إقناع فرنسا بإطلاق سراح الزعماء الخمسة. عند ذاك، لم المغرب بدا من استدعاء سفيره في باريس، عبد الرحيم بوعبيد، وقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

Leave a comment